{قَالُواْ} أي حين رجعوا من عيدهم ورأَوا ما رأوا {مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا} على طريقة الإنكارِ والتوبيخِ والتشنيع، وإنما عبروا عنها بما ذكر ولم يشيروا إليها بهؤلاء وهي بين أيديهم مبالغةً في التشنيع وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} استئنافٌ مقرر لما قبله، وقيل: مَنْ موصولةٌ وهذه الجملةُ في حيز الرفع على أنها خبرٌ لها، والمعنى الذي فعل هذا الكسرَ والحطْمَ بآلهتنا إنه معدودٌ من جملة الظَّلَمة إما لجُرأته على إهانتها وهي حقيقةٌ بالإعظام أو لإفراطه في الكسر والحطْمِ وتماديه في الاستهانة بها، أو بتعريض نفسِه للهلكة {قَالُواْ} أي بعضٌ منهم مجيبين للسائلين {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي يَعيبُهم فلعله فعل ذلك بها فقوله تعالى: {يَذْكُرُهُمْ} إما مفعولٌ ثانٍ لسمِع لتعلّقه بالعين أو صفةٌ لفتى مصحِّحةٌ لتعلقه به، إذا كان القائلون سمِعوه عليه السلام بالذات يذْكُرهم وإن كانوا قد سمِعوا من الناس أنه عليه السلام يذكرهم بسوء فلا حاجة إلى المصحّح {يُقَالُ لَهُ إبراهيم} صفةٌ أخرى لفتى أي يطلق عليه هذا الاسم.{قَالُواْ} أي السائلون {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} أي بمرأىً منهم بحيث نصبَ أعينهم في مكان مرتفع لا يكاد يخفى على أحد {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي يحضُرون عقوبتنا له، وقيل: لعلهم يشهدون أي بفعله أو بقوله ذلك فالضميرُ حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مُبهم أو معهود {قَالُواْ} استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم، كأنه قيل: فماذا فعلوا به عليه السلام بعد ذلك؟ هل أتَوا به أو لا؟ فقيل: أتوا به ثم قالوا: {ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِبْرَاهِيمَ} اقتصاراً على حكاية مخاطبتِهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانَهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمرٌ محقق غني عن البيان.{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} مشيراً إلى الذي لم يكسِرْه، سلك عليه السلام مسلكاً تعريضياً يؤديه إلى مقصِده الذي هو إلزامُهم الحجّةَ على ألطف وجهٍ وأحسنِه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب، حيث أبرز الكبيرَ قولاً في معرض المباشِرِ للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرِض فعلاً بجعل الفأسَ في عنقه، وقد قصد إسنادَه إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنامُ غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفةً مرتّبةً للعبادة من دون الله سبحانه، وكان غيظُ كبيرِها أكبرَ وأشدَّ حسب زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعلَ باعتبار أنه الحاملُ عليه، وقيل: هو حكايةٌ لما يقود إلى تجويزه مذهبُهم كأنه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرُهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدِر على ما هو أشدُّ من ذلك، ويحكى أنه عليه السلام قال: فعله كبيرُهم هذا، غضِبَ أن تُعبدَ معه هذه الصغارُ وهو أكبرُ منها فيكون تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيهَهم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنامَ، وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادرِ عنه إلى الصنم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلُغ فيه غرضه من إلزامهم الحجةَ وتبكيتِهم ومُثِّل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبتُه بخط رشيقٍ وأنت شهيرٌ بحسن الخطِّ: أأنت كتبْتَ؟ كان قصدُك تقريرَ الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لا نفيَها عنك وإثباتَها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصةَ المعنى في المثال المذكور مجردُ تقريرِ الكتابة لنفسك وإدعاءُ ظهور الأمر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيلِه في السؤال لابتنائه على أن صدورَها عن غيرك محتملٌ عنده مع استحالته عندك، ولا ريب في أن مرادَه عليه السلام من إسناد الكسرِ إلى الصنم ليس مجردَ تقريرِه لنفسه ولا تجهيلَهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم، بل إنما مرادُه عليه السلام توجيهُهم نحو التأملِ في أحوال أصنامهم كما ينبىء عنه قوله: {فَسْئَلُوهُمْ إِن كَانوُاْ يَنطِقُونَ} أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطِقوا وإنما لم يقل عليه السلام: إن كانوا يسمعون أو يعقِلون مع أن السؤال موقوفٌ على السمع والعقل أيضاً، لما أن نتيجةَ السؤالِ هو الجوابُ وأن عدم نطقِهم أظهرُ وتبكيتَهم بذلك أدخلُ، وقد حصل ذلك أولاً حسبما نطق به قوله تعالى: {فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} أي راجعوا عقولَهم وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضَرّةِ عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسَره بوجه من الوجوه، يستحيل أن يقدر على دفع مضرَّةٍ عن غيره أو جلبِ منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبوداً {فَقَالُواْ} أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي بهذا السؤالِ لأنه كان على طريقة التوبيخِ المستتبِعِ للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام، لا من ظلمتوه بقولكم: إنه لمن الظالمين أو أنتم الظالمون بعبادتها لا مَنْ كسرها.{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ} أي انقلبوا إلى المجادلة بعدما استقاموا بالمراجعة، شبّه عودَهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيءِ أعلاه، وقرئ: {نُكّسوا} بالتشديد ونكَّسوا على البناء للفاعل أي نكّسوا أنفسَهم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} على إرادة القول أي قائلين: والله لقد علمت أنْ ليس شأنهم النطقُ فكيف تأمرُنا بسؤالهم؟ على أن المرادَ استمرارُ نفي النطقِ لا نفيُ استمراره كما تُوهمه صيغةُ المضارع.